قال
تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}.
المناسبة:
بعد أن ذكر
استبعادهم للبعث، ورد عليهم بتحقيق قدرته تعالى وعلمه، وبين أن جميع
أعمالهم محفوظة مكتوبة عليهم، أتبع ذلك ببيان ما يلاقونه لا محالة من الموت
والبعث وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال.
القراءة:
قرأ
الجمهور: {سَكْرَةُ}.. بالإفراد، وقرأ ابن مسعود {سكرات} بالجمع، وقرأ
الجمهور بفتح التاء في {كُنْتَ} والكاف في {عَنْكَ} و {غِطَاءَكَ} و
{فَبَصَرُكَ} وقرئ بكسر التاء والكاف. وقرأ الجمهور {عَتِيدٌ} بالرفع وقرئ
بالنصب.
المفردات:
{سَكْرَةُ الْمَوْتِ} شدته الذاهبة بالعقل عند
النزع. {بِالْحَقِّ} أي بحقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله ورسله أو
حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته. أو بالأمر الثابت الذي لا
بُد أن يكون. {تَحِيدُ} تهرب منه وتنفر عنه، تقول أعيش كذا وأعيش كذا فمتى
فكر في قرب الموت حاد بذهنه عنه وأمل طول الأجل.
{الصُّورِ} القرن الذي
ينفخ فيه إسرافيل {الْوَعِيدِ} أي يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار.
{سَائِقٌ} حاث على السير من الملائكة. {شَهِيدٌ} أي مخبر بأعمالها. قيل هو
ملك آخر يشهد عليها بما فعلت. وقيل الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشوراً. وقيل
السائق والشهيد ملك واحد جامع بين الوصفين كأنه قيل معها ملك يسوقها ويشهد
عليها. {غَفْلَةٍ} لهو وسهو. {فَكَشَفْنَا} أزحنا. {غِطَاءَكَ} حجاب
غفلتك. {حَدِيدٌ} نافذ قوي . {قَرِينُهُ} الملك الذي يسوقه أو الملك الموكل
بتعذيبه من زبانية جهنم. {عَتِيدٌ} معد حاضر.
التراكيب:
قوله:{وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} الواو للعطف على إذ يتلقى، والباء في
بالحق للتعدية أي أحضرت سكرة الموت الحق، ويجوز أن تكون الحال أي متلبسة
بالحق، والتعبير بالماضي في هذا والذي بعده للإيذان بتحقق الوقوع.
وقوله:
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} على تقدير القول أي يقال له في وقت
الموت: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} والإشارة فيه إلى الموت،
والخطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت. وقوله {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}
معطوف على قوله {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} والمراد النفخة الثانية.
وقوله {ذَلِكَ} الإشارة فيه إلى الزمان المفهوم من نفخ فإن الفعل كما يدل
على الحدث يدل على الزمان. أي يوم النفخ. وقيل الكلام على حذف المضاف أي
وقت ذلك، وإنما قال: {يَوْمُ الْوَعِيدِ} مع أنه يوم الوعد أيضاً لتهويله
ولذلك بدئ ببيان حال الكفرة. وقوله {مَعَهَا سَائِقٌ} معها خبر مقدم وسائق
مبتدأ مؤخر والجملة في حل جر صفة لنفس. وجوز أن تكون في محل رفع صفة لكل.
وأنكر أبو حيان على الزمخشري إنكاراً شديداً لما جعلها في محل نصب على
الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، قال أبو حيان: هذا
كلام ساقط لا يصدر عن مبتدئ في النحو لأنه لو نعت كل نفس لما نعت إلا
بالنكرة. فهو نكرة على كل حال فلا يمكن أن يتعرف كل وهو مضاف إلى نكرة.
وقوله:
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} محكي بإضمار قول هو إما صفة أخرى
وإما على سبيل الاستئناف البياني كأنه قيل: فماذا يفعل بها! فقيل: يقال:
لقد كنت في غفلة من هذا، وقرأ الجمهور بفتح تاء الخطاب حملاً على لفظ كل من
التذكر أو على التأويل بالشخص كما في قول جبلة بن حريث:
يا نفس إنك باللذات مسرور
فاذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
وأما من قرأ بكسر التاء فالخطاب للنفس. وكذلك فيمن قرأ: {غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ} على التذكير والتأنيث.
وقوله:
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} معطوف على {وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ ٌ} وإنما عطفت هذه الجملة لأن المقصود التشريك مع ما قبلها في
الحصول أعني مجيء كل نفس مع السائق والشهيد وقول قرينه هذه المقالة.
والإشارة فيه يجوز أن تكون للكافر إن قلنا إن القرين هو الملك الموكل
بسوقه، والتعبير عنه بما التي لغير العاقل، لأنه لم ينهج نهج العقلاء.
والتقدير هذا الكافر الذي أسوقه لدى حاضر، ويجوز أن تكون الإشارة للعذاب إن
قلنا إن القرين من زبانية جهنم والتقدير هذا العذاب لدي لهذا الكافر
الحاضر ويجوز أن تكون الإشارة إلى صحيفة عمله إن قلنا إن القرين هو الملك
الموكل به في الدنيا، والتقدير هذا الذي سجلته عليه حاضر مهيأ للعرض. و
{ما} إن جعلت نكرة موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فعتيد بدل منها أو
خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف. ومن قرأ {عَتِيدٌ} بالنصب فهو على الحال
والأولى حينئذ أن تكون ما موصولة.
المعنى الإجمالي:
وأحضرت شدة
الموت الذاهبة بالعقل عند النزع حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله ورسله،
ذلك الموت الذي كنت تنفر عنه وتهرب منه، وصوت إسرافيل في القرن الصوت
الثاني، ذلك الوقت يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار، وأتت كل نفس يصحبها
ملك يسوقها، وشهيد يخبر بأعمالها، لقد كنت أيها الإنسان في لهو وسهو من هذا
النازل بك، فأزحنا عنك حجاب غفلتك فبصرك اليوم حاد قوي نافذ.
وقال الملك الموكل به: هذا الذي عندي مهيأ حاضر.
ما ترشد إليه الآيات :
1 - إن للموت سكرات.
2 - عند سكرة الموت يظهر الحق لمن عمي عنه.
3 - يصحب كل نفس إلى المحشر سائق وشهيد.
4 - عند القيامة لا توجد نفس تكذب بها.
5 - حب الله للعدل في القضاء حتى على الكافرين.
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد